الخميس، 31 أكتوبر 2013

أعمال عنف (قصة قصيرة)



عينان سابحتان في الفراغ تحدقان في مشهد سكن الأعماق.كان للتو قد دفن أشلاء الجسد الواحد والعشرين في قائمة يرتعد من استطالتها.
في كل مرةٍ ينزل بالكفن إلى جوف القبر يسأل نفسه "من سيكون التالي ؟"
لم يعد لداره التي اعتاد أن يتزمل تحت سقفها بعد ارتطام المجرات في رأسه و انفجار حمم الدماء و براكين الغضب التي تعتلي الصدور. عوضًا عن ذلك قصد المسجد الذي قتل فيه أخوه "عمر".
كان الإنفجار قد أودى بحياة العشرات وأضعافهم من الجرحى ممن غصت بهم الطرقات والمستشفيات.تحسس يديه, تمنى لو كان بمقدورهما جرف سيل الموت لكنهما الآن ترتجفان.
الأرض حول المسجد ملطخة بنجيع يأبى أن يغور في باطنها و الشمس تتردد في الأفول لا تغيب إلا بغياب أرواح معها أو هكذا خيل إليه.
شعر برغبةٍ عارمةٍ في الدخول إلى المسجد والصلاة فيه ,و لكن النذير الأحمر هناك طاف أمامه وهو يسوق خيال " عمر " .التفت إليه... ابتسم له ثم توجه إلى القبلة و كبر!
خرج مسرعًا وجلًا و خليط أصوات زوجته و مناغاة طفله يدوي في رأسه. طرق الباب ففتحت له :
_أين كنت؟ ماذا جرى؟
_لماذا غبت عن العزاء؟
لكنه لم يسمع شيئًا من سيل الأسئلة.كل ما أمِل به أن يكونا بخير فتنفس الصعداء.
غارت النجوم وهدأت عيون إلا عينيه كانتا تتقلبان بين منظر الدماء والأجساد المتناثرة .بالكاد غفا قبيل الفجر.
في هذه الأثناء كانت عجلات الهمرات تلقف الأرض ,والقناصة جراد منتشر على أسطح البنايات المجاورة لبيته. خرج بعض سكان الحي شهودًا على مشهد متكرر.خلف الجدران أكوام من البشر تحدق في الأبواب المغلقة بإحكام. تتسارع نبضات قلوبهم كلما تعالت الأصوات في الخارج .يكتمون الأنفاس و دفقات الخوف تدب دبيب النمل في أوصالهم. قام فزعًا لأول وهلة لكنه كان قد تصالح مع الخوف منذ أن بدأ يدفن عائلته وجيرانه الواحد تلو الآخر.
سمع جاره "أبو ثائر" يقول: هذا البيت سيدي!
تحسس مسدسًا قديمًا بات ملازما لمخدته ,ثم اقترب من الباب. أشاح وجهه عن طفله و زوجته النائمين في دعةٍ. همس لهما بكلمات في الهواء. أمسك بمقبض الباب ثم ابتلعه الظلام. تلاهُ دوي رصاص وصرخات ثم صمت لم يعلم كنهه أحد  .


غصن الحربي

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

قراءة في قصة الثمن للأديبة غصن الحربي بقلم الأستاذ هشام النجار

قصة " الثمن " للأديبة المُميزة غصْن الحَرْبى تلقى الضوء الكثيف على نموذج إنساني مهم جداً ومؤثر جداً في حياتنا .. ونعولُ عليه جميعاً على طريق التغيير والتطوير والتحديث وعصمة الجموع والأمة من الزلل والانحراف والشطط .. ويا لضياع الأمة ويا لضياع الشعب إذا زلتْ قدمُ هذا النموذج في مستنقع التبعية للجموع والعامة خوفَ الشماتة أو الازدراء أو الاتهام بالجبن والتراجع والتولي يوم المعمعة .. الخ .

أو أن يزلَ ويضيع في متاهات الشهرة والأضواء.. أو أن يقعَ فريسة المال وتجار الأفكار والمواهب .

هذا النموذج الذي تتناوله هذه القصة الهامة جداً هو المفكر والموهوب والكاتب .

وفى استهلال القصة كان بطلها يُلقى كلمة أمام تياره الفكري والسياسي ومريديه وأصدقائه وأتباعه.. وهو في ذلك المَحْفل حريص فقط على نيل الإعجاب وتلقى هدير التصفيق ليشعر بعدها بخدر تلك اللذة الوهمية التي تعطيه نشوة الشعور بالتفوق والأهمية.. ولو على حساب الحقيقة ومواجهة رفاقه بالأخطاء ومواطن الضعف والزلل .

هم لا يريدون من يبصرهم بالخطأ ومن يقول لهم تراجعوا أو قفوا مع أنفسكم وقفة نقد ومحاسبة أو من يقول لهم تعالوا نصحح مواقفنا ونعتذر للناس إن كنا أخطأنا ونبدأ من جديد البدايات الصحيحة .

هم لا يريدون مفكراً ومبدعاً يأتي بالجديد .. إنما مجرد شخص موهوب في الكتابة والتنميق والتزويق يردد كلمات فارغة على طريق التقليد والجمود يرضي طموحاتهم وتدعم مصالحهم.. أما المفكر الناقد الذي يراجع ويعبر عن رأيه بحرية ويسعى لإثراء الساحة بالتنوع والفكر ويطور الأداء ويحمى الجميع من الهبوط والتدهور والانهيار فهذا مصيره الخلع منبوذاً غيرَ مرحب به .

بطل القصة هنا نموذج شائع في حياتنا الثقافية والفكرية والسياسية يُعطى لتياره ورفاقه ومريديه ما يريدون من كلمات ومعان فارغة جامدة .. فيعطونه ما يريد من إعجاب وتصفيق.. وهكذا يدفع فيقبض الثمن .

وعندما يتحول المفكر والكاتب لمجرد آلة وتابع لأغراض وحماسة المريدين يفقد على الفور لذة الإبداع والكتابة.. ويفقد حضورُه معناه وقيمته ويفقد لذة الكتابة بعد أن صارت عملاً عبثياً جباناً.. وهى التي تستمد بطولتها وقيمتها من التبصير والتفكير والتطوير والإفاقة وسوق الجماهير إلى الارتقاء والرفعة والسير في دروب العزة والمنعة بتعلم دروس الماضي واستشراف المستقبل حتى لا يضلوا ولا يهينوا.. لا أن تسوق الجماهيرُ القائدَ والمفكرَ بحماستها إلى المصير المكرر والخسارة المحتومة والهزيمة السريعة .

هنا يصبحُ الكاتب مُستباحاً والمفكر عُرضة للبيع والشراء لدى تجار المواهب ومستثمري الفكر .

ويا للقسوة والوجع عندما نرى مشهدَ النهاية والمصير لهذا المفكر الموهوب الذي قاده رفاقه وتياره بدلاً من أن يقودهم هو عندما نراه يبيعُ فكره وإنتاجه وكتاباته وبنات أفكاره التي تعب في تربيتها وتغذيتها بالعلم والثقافة والقراءة والتأمل طويلاً يبيعها لمن يدفع ويقبض مقابلها الثمن الرخيص البخس .

ازدراء ما بعده ازدراء ومهانة ما بعدها مهانة وما وصلَ إلى هذه الدرجة من الحقارة والامتهان إلا بتنازله في بداية الطريق وكونه رضي من البداية أن يكون مجرد بوق لا أكثر وأن يردد فقط ما يريد القريبون منه أن يردده .

ها قد أوصله خوفه وجبنه إلى هذا المصير المزري.. لقد خاف في البداية من المُصارحة وقول الحقيقة وحث مريديه على التراجع عن الأخطاء والاعتراف بها والاعتذار عنها لينال الرضا والإعجاب والتصفيق وأوصاف الشجاعة والبطولة .

وحتى لا يتهموه بالخور والضعف والتراجع والجبن والقفز من السفينة .. الخ .

وها هو يجنى ما قدمتْ يداه فينتهي به المطاف إلى الانزواء والعزلة ليصبحَ منبوذاً بعدَ أن انهارَ كل شيء وتم العصف بذلك الكيان الذي كان ينتمي إليه .. وكان من الممكن مبكراً إنقاذه .. فها هو يضيع وينزوي ويسجن نفسه داخلَ جدران بيته الذي لا يعرف عنوانه إلا أحد الأثرياء هواة الشهرة ممن يريدون أن يُقال عنهم مثقفون على عكس حقيقتهم .
انه
 الجزاء من جنس العمل والنهاية الجديرة به عندما أعطى رفاقه ما يريدون فيعطونه المقابل الذي يريد .. وهاهو يعطى رجل الأعمال والمستثمر ما يريد من وقد وظف ذلك المسكين لديه يكتبُ له ما يريد لينشره باسمه ويعطيه الثمن .
بنات أفكاره مقابل الثمن الذي يحتاج إليه اليوم في حال فقره وحاجته وعوزه .
هشام النجار




http://www.rabitat-alwaha.net/moltaqa/showthread.php?t=61070

قطع حلوى(قصة قصيرة)



كان يومًا غائمًا تعتلي قبته مُزن توشك على البكاء. حتى في يوم كهذا لا يتردد "كريم " في أن يعرج على دكان العم جابر بعد المدرسة فاللقاء اليومي بالعم جابر يعني الكثير لصبيٍ يضيق ذرعًا بمهاترات أقرانه. بضع كلمات من العم جابر كفيلة في نظره بتعويضه دروسًا قلما يتلقاها في مدرسته التي تقع قُبالة الدكان , ابتسامته , و تربيتته على كتفهِ و تِلك الحلوى التي يكافئه بها من حين لآخر أمورٌ يُعقِب فَقدها وحشةً في قلب اليتيم الصغير.
دخل كريم الدكان بينما العم جابر مشغول بترتيب بضاعة جديدة مَلأَ بها بضعة أرفف كانت شبه خالية .ما إن رأى العم جابر كريم حتى شيعهُ بابتسامة وقورة أظهرت الخطوط الدقيقة حول عيناه اللتان توهجتا برؤية الصغير.
-
السلام عليكم
-
أهلاً كريم ...وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
-
بضاعة جديدة! أُساعدك؟ قالها كريم وهو يهم بخلع حقيبته.
-
لا .. محروس هنا . سأفرغ عما قليل. كيف المدرسة اليوم؟
-
الحمدالله . اليوم أتممت حفظ سورة المعارج.
-
ما شاء الله ... هل لي بسماعها؟ .
أخذ كريم يتلو الآيات بصوت رخيم وعيناه تحطان على العم جابر الذي أخذ يكمل ترتيب بقية البضاعة. ما إن وصل لنهاية الآيات حتى التفت العم وقد علت ابتسامة رضىً محياه.
-
لا بد من مكافأة جديدة تليق بهذه القراءة . لدي حلوى لن تجد لها مثيلاً!
توهجت عينا الصغير بكلماته المشجعة و بادله الإبتسام.
على ناصية الشارع يقف "غريب "بثيابه الرثة و سحنته التي لونتها الشمس. إنه لا يفتر يتسول المارة و يمازح الصبية الذين كثيرًا ما يكافئونه بالإستهزاء والسخرية . جلَّ ما يهم غريب وجبة عشاء وحيدة تسكت جوعه في نهاية يومه الحافل بالكر والفر في الطرقات.
جلس الصبي على ناصية الدكان يتذوق مكافأته, و يراقب بصمت الرجل الذي يتحرك بخفةٍ من مكانٍ لآخر حتى دخل الدكان . فجأة علت جلبة اختلط فيها صوتان: صوت العم جابر الغاضب وصوت غريب المثقل بالتوسل والرجاء.
-
أقسم لك بأني وضعتها هنا لقد أعطيتك إيها..
-
لا تقسم!
_
لقد وضعتها هنا حينما جاءت الشاحنة الصغيرة ...
_
قلت لك اخرج أو ستخرجك العصا !
_
لقد قلت لي أن أعود لآخذ ..
هنا أخرج العم جابر عصًا غليظة .. فانكمش الآخر و أطرق رأسه بعينين دامعتين .انسل غريب خارج الدكان وهو يتمتم بصوت خفيض بكلام غير مفهوم.
لأول مرة يرى كريم العم جابر بهذه القسوة , فانزوى خلف عارض الدكان المليء بالملصقات الدعائية .
كان العم جابر قد جلس على أحد أكياس الشعير وهو يشتم و يسب غريب. بعد أن سكت عنه الغضب أخرج ورقة نقدية يتأملها و هو يوجه حديثه لمحروس.
-
هذا الأبلة !كم مرة أطعمته و سقيته ؟! الآن جاء ليحاسبني!
لم يرد محروس
_
ترى من يضيع مبلغ كهذا على غريب؟
تناثرت قطع الحلوى التي كان يمسك بها كريم على مدخل الدكان . شعر أن مذاقها في فمه قد امتزج بدموع الرجل الذى ولى للتو منكسرًا و بطعم مرارة وحشة أيام ستأتي .كان هطول المطر محفزًا لكريم لأن يسرع في العودة للمنزل وفي رأسه صوت يتكرر( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ)

غصن الحربي